الشعرة البيضاء
وقفت
أمام المرآة تنظر لوجهها وتتحسس بيديها شعر رأسها، فهي تبحث عن شيء تخاف
أن تراه، تعرف أنها اقتربت منه وآن أوانه، ولكنها تتمنى لو يطول انتظاره.
وفي هذه المرة بالذات لم ينتعش قلبها ويهدأ بالها، ولم تذهب من أمام
المرآة مسرورة ضاحكة كسابق عهدها ، لأنها رأتها وأطبقت بأصابع يدها عليها،
فأمسكتها وتنهدت، ثم تسمرت مكانها وكادت أن تأخذ قرارها باقتلاعها من
جذورها، ولكنها فجأة سمعت صوتها وكأنها تحدثها وتقول لها:
تمهلي.. تمهلي.. لم غضبت من رؤيتي وانقبض صدرك وكأنك قابلت عدوا لك؟ فأنت
من تبحثين عني كل يوم لأنك أيقنت قرب زيارتي.. والآن وعندما رأيتني صدمت
وكأنك لا تعرفين أنني آتية لك.. اهدئي، وتريثي، فأنا لست بزائرة بل أصبحت
صديقة لك، وسأقضي معك بقية العمر رضيت أم أبيت، فأنا ملازمة لك فاقبليني
يا عزيزتي واعترفي بمولدي ولا تخافي مني على شبابك، لأن شباب العمر ليس
مخلداً.. استبدليه بشباب القلب فهو بستان ثماره تتجدد.
أما جمال الوجه فاعلمي أنه زائل فلا تتشبثي بضيف سيأتي يومه ويرحل
فتتألمي، فجمال الروح أبقي، فهو بحر يفيض بمائه ليروي الظمآن ويشفي العليل
من علته.
فالعمر مراحل ولكل مرحلة بريقها وجمالها، لقد عشت طفولتك، بين المرح
واللهو، وكنت تتمنين الاحتفاظ بألعابك، ولكن ما دامت بك الطفولة وتناثرت
الألعاب فلم يبق منها إلا ذكرى لمن يتذكر، ثم شب قلبك للشباب وتمنيت لو
تقفزين بسنين عمرك وتحلين ضفائر شعرك، وأقبلت على الحياة بكل قوتك
وعنفوانك فما أوقفك شيء إلا حياؤك.
أما الآن فأنت تقفين على أعتاب مرحلة جديدة بحياتك وهي بداية وليست نهاية.
بداية لرجاحة عقلك واتزانه وثقة بالنفس لا يهزها زلزال، وكلمة لا ترد
يسمعها الصغير فلا يقول إلا سمعا وطاعة، ورأي يؤخذ به لأنه وليد لخبرة
السنين الطوال وشجاعة في اتخاذ القرار للعلم بكيفية الاختيار، وحكمة لا
تكتسب إلا بمرور الأيام والليالي، وثبات في المشاعر تتحكمين به في هوى
القلب دون أن تبالي .
وعندئذ أنهت الشعرة البيضاء حديثها بكلمة لا يستهان بها فقالت: ميلادي ليس
نهاية لحياتك بل بداية لاتزانك، وتذكري أن للعمر ربيعاً يعقبه خريف وطالما
عشت الربيع فلابد أن تعيشي الخريف.