قال
لها في إحدى المساءات الموحشة أنه يمسكه إلا عندما يشعر بالتعب..ولا بتخلص
من تلك الوخزات المؤلمة في جانب صدره الأيسر إلا إذا أمسكه وصار يبني كومه
الكلمات الشوكية..قال لها إن العرق يغطي جلده بأكمله..ويبلل أطراف شعره
الداكن..فيبدأ يصنع من جسده رائحة أقرب النتانة..عندها فقط يمسكه.
قال لها إنه يعشق الجو الحار..يمقت البرودة في كل شيء..يعشق تلك القطرات
التي تتصبب على جبهته العريضة فتملأ خطوط الزمن التي خطت عليها..لتصب في
خطوط أخرى محفورة على خديه وأسفل عينيه الرماديتين.
قال لها إنها ملهمة..إنها تذكره بطفولته..إنها توقظ في حنايا روحه طفلاً طال كدمه..
ياه..كم قال لها من أشياء..وهي تصدق..تضحك.. تبتسم وتسعد..وأحياناً يأخذها
النوم في رحلة أثرية إلى حلم زهري جميل..تصير فيه كبيرة..ترتدي فستاناً
عريضاً بطبقات كثيرة..ذراعاها عاريتان.. يدنو منها قوس المطر لتجلس على
حافته..ثم يرتفع بها عالياً حيث الغيوم تبتسم..والبياض يحوطها من كل الجهة.
كان يقف على إحدى الغيمات ينتظر عروسه الصغير.
وقفت هي الآخرى..أمسكت بطرف ثوبها وصارت تقفز من غيمة لغيمة تسأله أن يمسك
بها..هي السبب في عودة تلك الوخزة التي تهشم قلبه..لم تراع أن والدها
متعب..فلعبت وكأنها تهرب من فارس صغير..
سقط يتأوه..ركضت نحوه..هي من أمسكت رأسه هذه المرة..وضعته على حجرة..سقطت
دمعتها على ثغره..نظر إليها نظرة جامدة ثم توقفت نفسه..لكن ثغره كان
مبتسماً.
واستفاقت بعينين محدقتين في الظلام.
تذكر كيف ارتمت على يده تقبلها وتبكي..شدت بكفيها الناعمتين على قبضته
الصلبة وكأنها ستنتشله من الألم لتعود به إلى نشوة الحياة..لكنه كان بتصبب
عرقاً..جلبت له قلمه..لكنه لا يستطيع إمساك قلم في لحظة احتضاره.
قال لها..كوني قوية..اقتلي كل حزن يجتاحك قبل أن يقتلك..والبسي رداء الفرح الأبيض دائماً..
أي رداء خلفه لها بعد وفاته..وأي برد تركه لقلمه؟!
من سيملأ الأوراق بالكلمات بعده..
أي وحدة ستعيشها..وأي زهر ستقطفه..ولمن؟!..حقاً..يا زمان..كانت تنصت..تستمع..تخبئ كلماته بين دفتي ذاكرتها الصغيرة.
ولآن..تخرج أوراقاً قديمة من درج مكتبه..تقرؤها..تتراءى صورته أمامها..فتحدثه ويحدثها..أرواح لا تفترق..وحب لا يموت.
أمسكت قلمه..تشعر بيده تمسك يدها فوق القلم تعلمها كيف تبني تلك الكومة..لكنها ليست بالشوك الذي كان يجلبه..