الزائر الذي لايرد
قال
محدثي وكانت علامات النجابة والنباهة ظاهرة عليه، وتعلوه سيما الخير
والصلاح: نحن في زمن تقبل فيه أنصاف الحلول، وتميع فيه الأوامر والنواهي..
فما وافق الهوى أخذنا، وما خالفه تجاهلنا.. وسأحدثك عن حادثة وقعت لي قبل
شهور، سأحدثك عن قريب بعيد.. قرّبه النسب وأبعده الدين. وبحكم اطلاعي على
دقائق حياته، وتفاصيل أيامه فقد تأكد لي أنه لا يصلي مطلقًا.
كنت أستعجل الأيام وأسير معه في الحديث خطوات عجلى ليقيم الصلاة، ولكنه
كان يقدم ويؤخر، ويظن أن العمل طويل، ورغم النهاية المرة التي يعلمها كل
بني البشر إلا أنه يتماهل ويتجاهل.
قلت له: عشرون وثلاثون، بل ثمانون عامًا ثم ماذا؟ الموقف نفسه سيمر عليك طالت بك الأيام أم قصرت عنك الليالي.
في ليل مظلم استحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكر الله، أطلق قدميه تركض في
أوحال المعصية وأوزار الكبيرة.. ألهته الأماني وغرته لذة الحياة وبهجة
الدنيا.. وكثير من الناس اليوم مثله لو أجلت طرفك في المجتمع.
وفجأة على غير موعد نزل به نازل، وطرقه طارق، ولم يكن هذا الضيف ليزوره
إلا هذه المرة فحسب، ولكنها زيارؤة ثقيلة مؤلمة.. إنه الزائر الذي لا يرد.
حاول أن يؤخره أو يؤجله، بل ورغب أن يتفاهم معه، ويدفع في وجهه الدواء
الطبيب، والأموال، والأولاد ولكن انتهى كل شيء.. هوت آمال عظام وأحلام
كالجبال، ورغم كل الوسائل الدفاعية. نزل بساحته أمر كان ينكر وقوعه، فحشرج
صدره، وضاقت أنفاسه، وغادرت روحه، وأمامه أسئلة صعاب، والجنة والنار!
في مجتمع أسرتي لم يكن هو أول من غادر الدنيا بهذه السرعة، ولم يكن هو
الشاب الوحيد الذي فقدناه.. ولكن كانت حياته فجيعة، وموته عبرة! وكان يوم
موته وتغسيله والصلاة عليه.. تراجعت طاعة وعبادة حتى تم كل شيء.. ولعلك
تعلم أن في مجتمعي الصغير بعضًا ممن في دينه وهن، وفي إسلامه دخن، ومنهم
من تلبسه الشياطين، فأعلن النفاق قولاً وعملاً. وهؤلاء وأعوانهم اجتمعوا
لحربي وإطلاق السهام نحوي في اجتماع عائلي شهري ملأه الأشياخ من كبار
السن، ومن شبابهم وصغارهم.
قال محدثي وهو يتذكر الموقف: في ذلك الجمع الكبير هب أحدهم شاهرًا سيفه،
ومصوبًا سهمه، ورافعًا صوته باستغراب يلمؤه الاستهزاء وهو يسمع الجميع:
أين أنت عن صلة الرحم والقيام بالواجب؟ فها هو فلان مات ولم نر لك أثرًا،
ولم نعلم لك مكانًا، وهي أيام مشهودة، لم يتأخر عنها القاصي والداني سوى
أنت.. وأشار بأصبعه نحوي.
اتجهت العيون يملؤها العتاب، وتحركت الأيدي تلوم، واهتزت الرءوس تؤكد حديثه وتستطلع جوابًا لسؤاله: أين أنت عن واجب
الصلاة والعزاء؟! وأضاف أحدهم ممن اتخذ الاستهزاء طريقًا: تصلي، وتصوم ولا تعرف حقوق القريب وواجبات الأسرة؟
ثم نفث حقدًا أسود من قلبه وهو يقول: أنت مظهر بدون مخبر وصورة بدون روح..
تدعون أنكم اتخذتم الدين شعارًا ودثارًا، وأنتم لم تقيموا صلبه.
قال محدثي كأنه يزيل حيرتي، واستعجالي سماع ردة فعله، ونهاية المجلس الغاضب، والمحاكمة السريعة:
جعلتهم يتحدثون ما شاءوا، وجعلت نفسي هدفًا لسهامهم حتى فرغت كنانة الكثير
منهم، ثم قلت للمحدث الأول بصوت يسمعه الجميع: ما رأيك لو صليت صلاة
المغرب أربع ركعات؟. هل يجوز لك ذلك.؟ سكت ولم يجب وهو يحرك حاجبيه، ويهز
يده باستغباء عجيب، ولكني عدت وكررت السؤال وطلبت منه الإجابة بصوت مسموع
حتى يسمع المجلس كله.. قال لي بعد تكرار السؤال عليه ثلاث مرات: لا يجوز.
قلت له: قد أحسنت، هذا أمر الله ورسوله فنحن نطيعه في هذا، والله - عز وجل
- ورسوله صلى الله عليه وسلم أمرنا في الكتاب والسنة ألا نصلي على من مات
وهو لا يصلي وسماه كافرًا.
رفعت صوتي وأنا أفرغ سهمًا من كنانتي.. هل أسمع كلام الله ورسوله وأطيع أمرهما أم أسمع جعجعتك وهراءك؟!
استدرت نحو المجلس وأنا أقول: أُمرنا أن لا نصلي على من مات وهو تارك الصلاة، ولا نغسله، ولا ندفنه في مقابر المسلمين.
لقد سلمت وأنبت، وأطعت ونفذت، ولهذا صليت المغرب ثلاث ركعات كما يجب، وتركت الصلاة على من لا يُصلي كما يجب.
خيم الصمت على المجلس واستراحت النفوس، وأغمدت السيوف، فقد ظهر الأمر
واضحًا جليًا ولم أفرح انتصارًا لنفسي، بل لما عطرت به المجلس من قول الحق.
قال محدثي: مرت شهور فإذا كثير من شباب أسرتنا وقد سمع ورأى هذا الموقف
يعيد حساباته، ويراجع أفعاله، ويخشى أن يمر عليه يوم لا يجد فيه من يصلي
عليه. لقد كان هلاك هذا القريب رحمة لمن بعده، وعبرة لمن خلفه.. ولا يزال
يتردد في جنبات المسلمين قول الله تعالى: ﴿وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ
مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ
كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [التوبة:
84]، وقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة
فمن تركها فقد كفر».
وهكذا تمر الأيام عجلى، وتنطوي صفحات الأيام، ويبقى للمرء ما قدم، فأطلق
بصرك قليلاً لترى الأمر.. ثم مد يدك للترحيب بالزائر القادم، وأكرم
وفادته، فهو يقطع الأيام والشهور سائرًا نحوك(1).
* * *
--------------------------------------------------------------------------------
(1) نشرت في مجلة الأسرة العدد (55) شوال 1418هـ.
بقلم الشيخ/ عبدالملك القاسم سدده الله.