ادركت من اللحظة الأولى لجلوسه بجانبي انه يركب الطائرة لأول مرة .. كان يتلفت يميناً وشمالاً بوجل، ويكثر من النظر خلال النافذة إلى اسفل. تعارفنا عندما ساعدته في شد حزام الأمان ... قال : لأول مرة اركب الطائرة ... لو لم تهطل الثلوج لما خطوت نحو الطائرة خطوة واحدة. قلت له : لماذا ؟ قال : لأن على الإنسان ان يعرف موطئ قدمه فلا يضعها الا على ارض صلبه .. لو كان الطيران شيئاً طبيعياً لنا لرزقنا الله أجنحة.
وبدلاً من الرد عليه استندت بظهري إلى مقعدي ، لأن الطائرة بدأت تسرع على المدرج ، وعندما بدأت ترتفع في الجو شعرت كأن هناك قوة خفية تدفعنا إلى الخلف ... نظرت اليه بطرف عيني فرأيته ملتصقاً بجانب مقعده وقد أغمض عينيه بشدة. وعندما ارتفعت الطائرة تماماً في الجو التفت إلى قائلاً : - تقول الأحصائيات العلمية بأن الطائرة هي أكثر وسائط النقل أماناً وأقلها خطورة ان أخذنا عدد الحوادث بالنسبة لعدد المسافرين. بدأ لي كطفل خائف يغني في زقاق مظلم لكي يتغلب على خوفه ... قلت له مبتسماً : - قد يكون هذا صحيحاً ، ولكن الأجل واحد ولا يتغير، فقد تركب الطائرة للمرة الأولى في عمرك ولكن طائرتك تقع ان كان قد حان أجلك. قلت هذا بدون تفكير ، الظاهر ان كلامي هذا قد أخافه ، اذ اصفر وجهه وبدا صوته يرتجف وهو يكرر ما قاله : - على الإنسان ان يعرف موطئ قدمه ، فلا يضعها الا على أرض صلبة ... لا أدري ماذا نفعل داخل شيء يتجول في الفضاء .. أدعو من الله ان يكون قائد الطائرة قائداً مجرباً. قلت له : توكل على الله! ... عند ذلك ستطمئن.
قال : كنت أستطيع تطبيق ما تقوله لو كان ايماني قوياً .. مع أنني اؤمن بالله إلا ان عقلي لا يتحمل تصور وجوده وقدرته. قلت : هذا شيء طبيعي ، فعيوننا مثلاً لا تستطيع الرؤية بعد مسافة معينة. وآذاننا لا تستطيع سماع بعض الترددات والأمواج الصوتية ، لذا ألا يبقي العقل عاجزاً بعد حد معين ؟ فكر قليلاً ثم قال : لعلك على صواب ... ولكن مع هذا ان نزلت سالماً فسأقبل الأرض. عندما هبطت الطائرة على المطار نزلنا معاً من الطائرة ... قال: لن أركبها مرة اخرى ابداً. قلت له وأنا أشير إلى الطائرة التي نزلنا منها : - هل خفت من هذه الطائرة التي نزلنا منها قبل قليل ؟ قال : انت تعلم جيداً بأنني كنت خائفاً. قلت : حسناً ... ولكنك الآن ركبت طائرة اخرى أسرع منها كثيراً وهي الدنيا .. ألا تسبح هي ايضاً في الفراغ ؟ توقف عن السير وصوب نظره إلى السماء وكأنه يري الدنيا ويكتشفها للمرة الأولي ... ثم مال على اذني وهمس فيها : - هل تذكر ما قلته لك في الطائرة من ان عقلي لا يتحمل تصور وجوده وقدرته ؟ ... لم تعد لي مثل هذه المشكلة يا صاحبي .