مقامات آخر الزمان
المقامة الرموتية
كاظم فنجان الحمامي
حدثنا صابر بن حيران . قال : احتجت إلى متابعة الأخبار. ومعرفة ما فعله بنا الأشرار. في الأمصار والأقطار. وكان لا بد لي من شراء طبق القمر الصناعي. لإستلام البث الفضائي. التلفزيوني والإذاعي. فأُرشِدْتُ إلى تقني يتحدث بلَطافَةٍ. ويسفِرُ عنْ نَظافَةٍ. وحوله من الأطباق أطواق. ومن الزحام طباق. وبين يديه عصا صغيرة. فيها أزرار كثيرة. كأسنان المشط في الاستواء. يداعبها باللمس بلا عناء. فتنطلق منها الإشارات في الهواء. فيجتلبها الرسيفر. ويذعن لارسالها المشفر. رغم بعد التلفاز عن المصدر. فلا حاجة إلى المجاورة. من أجل تحقيق هذه المحاورة. ثم أخذ التقني يستعرض المحطات وتعددها. ويتفحص القنوات وترددها. وجعل يقلبها عن بعد بيده. وهو جالس على مقعده. ثم التفت نحوي. وقال : هذا هو الرموت. وقد شاع استخدامه في معظم البيوت. وله نحافة الصب. وصقالة العضب. ولدونة الغصن الرطب. وكأنه مقبض السيف في الحرب. .
قال صابر بن حيران : ولم يلقني قرار. ولا طاوعني اصطبار. حتى سألته عن صاحب هذا الأبتكار . فقال من دون تردد أو احتيار . إنه الحمار. فقد سبقتنا فصائل البغال والحمير. في البحث والتفكير. واكتسبت خبرة منقطعة النظير. في ممارسة فكرة الرموت حيوانيا. قبل ان نطبقها نحن ميدانيا. ونجحت في رحلاتها المكوكية. قبل وكالة ناسا الفضائية. وتميزت في نقل الأثقال والأحمال. بين السهول والجبال. ونجحت في مسارح تنقلاتها. ومسايح غدواتها وروحاتها. فهي تتلقى التوجيهات. وتطبق الإرشادات. وتنفذ التعليمات . وتنطلق نحو المكان. من دون تدخل مباشر من الإنسان.. ثم تواصل العمل. من غير كلل أو ملل. على الرغم من وعورة الطرق وتشعباتها. وتعدد المهمات وصعوباتها. ولا تكترث لإستفزازات المشاكسين. ومضايقات العابثين. ثم زج بها الخبثاء في المعارك الساخنة. والإشتباكات الطاحنة . واشتركت في الهجوم والإقتحام. وفتح الثغرات في حقول الألغام. وتحددت فكرة الرموت بتلك المهام. ثم صار الرموت من الأدوات المنزلية. في هذه المرحلة الزلزالية. وتطور استخدامه في البحث عن المحطات. وإختيار اللقطات. وانتخاب القمر المطلوب. وتثبيت التردد المرغوب. والتحكم بالصوت واللون. وزاوية استقطاب الصحون. .
قال صابر بن حيران : وشاع استخدام الرموت في البر والبحر. والوبر والمدر. على يد الأمريكي روبرت إدلر. وأنتجته أول مرة شركة زيناس. ووضعته في خدمة الناس. وكان اسمه (ليزي بون Lazy Bone) عند الأمريكان. وتعني عظمة الكسلان. وقد أسهم فعلا في ترهل الأبدان. وزيادة الأوزان. وانخفاض نشاطات الإنسان. وتحولت الفرجة إلى إدمان. وصار الإعلام الفضائي واسع الانتشار. ويجذب أنظار الصغار والكبار. وبات الرموت من بواعث الكسل. ومن مصادر السموم المغلفة بالعسل. .
قال صابر بن حيران : وأدى تردي الأوضاع السياسية. وخروجها عن السياقات القياسية. في معظم البلدان العربية. إلى ظهور أفواج المحللين. والمتحذلقين. والمتشدقين. وجيوش المنافقين. فجلبوا لنا الهم والوجع. وتسببوا في إثارة الفزع والهلع. يتقلبون في مواقفهم بين شامت وساخر. ومحرض وماكر. وداعر وفاجر. فالتصقو على الشاشة. وتصنعوا الوقار والبشاشة. وتستروا بالهشاشة. وتقافزوا كتقافز القرود. وتنططوا كتنطط الكلب المقرود.. وكانوا من بواعث الحزن والنكود. ينظرون فتقتلنا الحاظهم. وينطقون فتزعجنا الفاظهم . فغرقنا في خضم مستنقع إعلامي. يفيض بالتهريج الكلامي. وانهالت علينا الحملات المبرمجة. وتسربت الينا الأفكار المؤدلجة. وابتلينا بقرود السيرك السياسي. في هذا الوضع القاسي. فاستخدمنا الرموت لإسكاتهم. وكتم أصواتهم. والاستمتاع بمراقبة حركاتهم. فحولناهم إلى مادة للفرجة. من أجل استعادة البهجة. فقد جلبوا لنا الضر. في الزمن المر. وأصبح الرموت من الأسلحة الجريئة. للتخلص من المحطات القميئة. وضبط المؤثرات الصوتية. والسيطرة على اللقطات الصورية. ورصد الإنفعالات الحركية. وحذف المحطات الإباحية. وهو يخزن الأسرار. كما يخزن اللئيم الدينار. .
قال صابر بن حيران : وانشغلت يوما بمتابعة آلاف القنوات. ومئات الإذاعات. من نايل سات . إلى عرب سبات. ومن البداية. إلى الهداية. ومن العقارية. إلى العراقية. ومن القطرية. إلى المصرية. ومن روتانا طرب. إلى روتانا غضب. ومن المغربية. إلى الشرقية. ومن ميلودي أفلام. إلى ميلودي انتقام . ثم تنقلت بسرعة من برامج الحوار. إلى مشاكل التجار. ومن برامج الأسئلة . إلى تفاهات المرحلة. ومن أفلام التاريخ. إلى تقشير الليمون والبطيخ . ومن الشيف رمزي. إلى الأسطة فوزي. ومن السفاهة. إلى الفكاهة. وسمعت تصريحات أوباما. وشاهدت اعصار الباهاما. وتابعت أولمبياد بكين. والمصارعة مع الثور المسكين. والرقص الأسباني. وإنحطاط الأغاني. وصمود الناس في غزة. وتمسكهم بالإباء والعزة. وتوغل الأساطيل في الخليج. والتحليل السياسي بنكهة التهريج. وذهلت من سرقة الأطفال من ملجأ الأيتام. واشتباك الإسلام بالإسلام. ومشايخ يحملون أصابع الألغام . وكيف يدخل الموت علينا من الأبواب. فنموت كما يموت الذباب. وكيف يتحذلق العرب في فلسفة الخراب. حتى سقطت من الارهاق مغشيا. ومن الضيق مغميا. ثم نهضت مترنحا من هول الأخبار المقرفة. وتذكرت قول طرفة :
ستُبْدِي لكَ الأَيَّامُ ما كُنْتَ جاهِلاً
وَيَأْتِيكَ باْلأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ
وَيَأْتِيكَ باْلأَخْبارِ مَنْ لَمْ تَبعْ لَهُ
بَتَاتاً وَلَمْ تَضْرِبْ لَهُ وَقْتَ مَوْعدِ
قال صابر بن حيران : وما الرموت إلا سلاح ذو حدين. فهو أداة من ادوات مكافحة الإستعمار الثقافي . والإستحمار الفكري . والإستهتار الإعلامي . وقرباج المهرج. وخمرة المتفرج . وعصا الكسلان. وشيطان الزمان. في كل بيت ومكان. وهو مأثمة ومندمة . ونعمة ونقمة. وأداة من أدوات الترف. ويسبب الضجر والقرف. ونسأل الله أن يجعل للخير علينا دليلا. ولا يجعل للشر إلينا سبيلا. وأن يجنبنا الفضائيات وسمومها. والبرامج وهمومها. والمحطات وهجومها. بحق محمد سيد البشر. والشفيع المشفع في المحشر. اللهم آمين. .
البصرة 18/9/2008